الجمعة، 23 مايو 2008

يوم نابغي من أيام الأسطى

اشوفك بخير يامه

ماشي خلاص يا حبيبي ؟

ايوه يامه .. ادعي لي

مستندا على عصاه انحنى على رأس أمه يقبلها و قبل يديها قبل أن يحمل ( زاده و زواده ) مسافرا إلى المدينة القريبة حيث يسكن فيها أيام الدراسة ليكون قريبا من الجامعة .. و حتى لا يشغله شاغل عن ماراثون التفوق ..

كان لازم يابني تلعب كورة ؟ آهو دا اللي خدناه من الكورة و قرفها ..

يامه دي حاجة بسيطة .. الاسبوع الجاي و انا راجع هارجع لك من غير العصاية ان شاء الله

يا واد يا سيد .. يا سيد .. نادت الأم

بتنادي على سيد ليه يامه ؟

ياخد الجحش يشيل الزوادة بتاعتك يوصلها للرصيف .. و اللا اقول لك ..

يعلق العربية و اركب معاه .. بلاش تمشي تعكز كدا .. دا حتى فال وحش يابني

حضر الواد سيد مسرعا

نعم يا خاله

علق الجحش في العربية .. و خد ابن خالتك وصله للطريق المرصوف

احسن مسافر و معاه زوادته .. و زي ما انت شايف اللي حصل له و هو بيلعب الكورة امبارح

الا قول لي يا باشمهندس .. انتو غلبتو و اللا اتغلبتو ؟؟؟

غلبنا يامه .. و كسبنا امبارح الواد احمد ابن اختي لفرقتنا .. الواد دا حارس مرمى مستقبله كبير

ربنا ينجحكو و ينجح مقاصدكو يا اولادي .. انتو و اولاد المسلمين

عاد الواد سيد ابن خالتي مهرولا

يللا يا هندزة العربية جاهزة .. هاوصلك و ارجع .. اصل خالتك على الساعة عشرة كدا ها تطلع قمح توديه ماكنة الطحين ..

يللا يابو السيد

عن اذنك يامه


و عاد ينحنى على رأس أمه يقبلها .. قبل يديها .. قبلت وجنتيه ..

ربنا يجعلك من المتفوقين دايما يابني

في التو وصلت سيارة الأجرة ( بتاع محمد أبو مرزوق ) حال وصول العربية و عليها الزوادة و صاحبها و سيد ابن خالته

هههههششش ..

صاح سيد في الحمار فتوقف على الفور

نزل صاحبنا من فوق العربية مستندا إلى كتف سيد ابن خالته و بيده الأخرى عرجونه القديم ... فتح سيد باب السيارة الأمامي لابن خالته ..


اتفضل يا هندزة .. اقعد قدام ..

جلس صاحبنا و استقر في جلسته على المقعد الأمامي .. و دلف جالسا بجواره محمد النحاس طالب في الفرقة الأولى بكلية التجارة .. سلم عليه بكل احترام و تقدير .. امتلأ الكرسيان الآخران للسيارة البيجو .. و السائق محمد أبو مرزوق على وشك البدء في الحركة

استنى يا اسطى محمد

خير يابني فيه ايه ؟؟

لحظة واحدة ..

نزل محمد النحاس تاركا المقعد الأمامي بجوار صاحبنا ..

عن اذنك يا باشمهندس .. حظك حلو .. جات في الوقت المناسب

قشعريرة سرت في جسده .. و خفقات قلبه تكاد ترجه رجا .. و سحابة غضب مكفهرة غطت وجهه

فجأة في نفس اللحظة التي جلست بجواره همس بصوت لم يسمعه إلا هي :


انتي ايه اللي جايبك هنا ؟ .. امشي ارجعي اركبي ورا

ابتلعت كلماته الملتهبة بدون أدنى تعليق

جلست .. و جلس .. لا يفصلهما إلا سنتيمترات معدودة ..

و لكن في عداد المعاني كان الفاصل بينهما آلاف الأميال


ما تحط لنا شريط نسمعه يا اسطى محمد .. قال محمد النحاس

محمد النحاس كان زميلا للآنسة التي تخلى لها عن كرسيه في المقدمة .. و كان يعلم - ليس هو و حسب بل أكثر أهل القرية – بما بينها و بين جارها في المقعد الأمامي .. إذ كانت تتحدث الركبان و تتغنى بقصائد شعره فيها

لم يكن يعلم أولئكم بما حدث بين صاحبنا و بين الآنسة منذ يومين .. لعله كان لقاء الوداع

من كاسيت السيارة انطلق صوت كوكب الشرق

و ابتدا قلبي يدوبني بآهاته .. و ابتدا الليل يبقى اطول من ساعاته

خفقات قلبه تعلو و تعلو و تعلو و يخمدها بتذكره لكلماتها التي قالتها منذ يومين .. يوم الخميس قطع شرايين حبه ابن السنوات الثلاث ..

أحس بدموع قلبها تفيض تروي صحراء الندم .. و لكن هيهات .. كان يقرأ تمتمات شفتيها و هو مغمض عينيه .. و يفك شفرة تنهداتها التي علمها إياها .. الأغنية تشدو و كل منهما يقرأ صاحبه بلغة لا يفهمها من جلسائهم أحد .. و لكن شيئا كان قد تكسر فيما بينهما
فلم يعد هو هو و هي أيضا لم تعد له هي

وصلت سيارة الأجرة إلى المدينة القريبة .. دفع لها أجرة الركوب كعادة جرت بينهما من قبل .. لكن هذه المرة كانت كغير سابقاتها .. لم ينظر إليها و لم تر ابتسامته
كانت العمارة التي يسكن فيها قريبة من موقف سيارات الأجرة .. ساعده محمد النحاس في الوصول ( بزاده و زوادته ) إلى حيث يسكن

كان اليوم يوم سبت و كان يوم راحته الأسبوعية .. لذا لن يذهب إلى الجامعة

رتب أشياءه .. و فرغ لحاله .. أخذ كرسيه و خرج إلى ( البلكونة ) و جلس .. و راح في سرداب صمت عميق .. تلك علامة تملك سلطان وادي عبقر من نفس صاحبنا .. و لا يخرجه من صمته هذا إلا أن يفرغ ما يحيك بصدره على صفحات إبداعية منثورة أو منظومة .. زجلية كانت أو فصحى .. سلطان وادي عبقر في ذلك اليوم كان يخايله ( من بعيد لبعيد ) ..

امتدت يده التقطت قلم رصاص .. و لكن تجمدت الكلمات و نضبت المعاني ..

و عز على القلم أن يخط لفظا بغير معنى

دار صاحبنا ما بين الكتب الدراسية و المجلات العلمية و الكتب الثقافية .. لا شئ منها يجتذبه ..

مرت ساعات لا يدري لها عددا

في المساء

التقط عصاه و نزل الدرج من الطابق السادس ..

وقف أمام الصيدلية المجاورة لمدرسة صلاح سالم .. ركب سيارة أجرة


السكة الجديدة يا اسطى .. قهوة معروف لو سمحت

دلف إلى المقهى .. أرسل ناظريه إلى المكان الذي اعتاد الجلوس فيه .. وجده خاليا .. كم كانت فرحته

جلس إلى الكرسي .. و راح في سرداب صمته مرة أخرى

أخرجه من سرداب الصمت صوت ( الجرسون ) :
تطلب ايه يا بيه ؟

هه ؟؟؟ قهوة ع الريحة لو سمحت

ثم راح في سرداب الصمت

لم ينتبه إلا و ( الجرسون ) يضع أمامه الصينية .. و صب محتويات ( الكنكة ) في فنجان القهوة

ارتوى ببعض من الماء .. ثم أخذ يرشف قهوته و هو ملامس جدران سرداب الصمت

لكأنه يغوص باحثا عن لآلئ معان يطلبها و لكنها عزت عليه و هو لها بالمرصاد

و هو على هذه الحال .. بدأ الناس يتوافدون إلى المقهى الذي ما فتئ يتزاحم شيئا فشيئا


تسمح يا استاذ ؟ ممكن نقعد معاك على الترابيزة دي ؟

انتبه إلى ذلك الصوت فإذا برجل خمسيني أو ستيني يخاطبه

اتفضل يا جدو .. قالها مبتسما

أظن هذه هي الابتسامة الأولى منذ ركب سيارة الأجرة عند قريته

جلسوا خمسة من أرباب المعاش على نفس ( ترابيزة ) صاحبنا

و ابتدأوا رحلتهم في لعب الطاولة

التفت إليه صاحب ذلك الصوت يحادثه .. لعله أحس أنهم قد قطعوا خلوته ...

ممكن نتعرف يا ابني ؟

انا اسمي ( ...... ) من قرية ( ...... ) مركز ( ...... ) في تانية هندسة

و الله ؟ انت من قرية ( .......... ) ؟؟

ايوه منها

تعرف عيلة عندكم اسمها ( ابو شعبان ) ؟

ايوه

تعرف الحاج ابراهيم ابو شعبان ؟

الحاج ابراهيم ابو شعبان ؟ الله يرحمه .. دا مات يمكن قبل ما اتولد ييجي بعشرين سنه

و راح الرجل في ضحك عمييييييق

ابتسم صاحبنا ابتسامة عريضة ..


خير يا جدو .. ضحكة حضرتك كدا بتقول حاجة ..

ثم هز رأسه بحركة تومئ إلى استفسار عن سبب هذا الضحك الآتي من عميق القلب

اقول لك يابني ..

انا في شبابي كنت شغال في منطقة الاصلاح الزراعي بتاع منطقتكم ..

و كان الحاج ابراهيم ابو شعبان من اعيان المنطقة


ايوه يا جدو عارف كدا

الحاج ابراهيم كان بيتجوز على مراته ..

ايوه عادي

اللي مش عادي بقى ان مراته كانت مبسوطه قوي ان جوزها بيتجوز

و داخلة الدار تزغرط .. خارجة من الدار تزغرط .. و بتشتغل في الفرح زي النحلة ..

و النسوان حواليها كانوا بيتعجبوا ..


( ايه دا يا نسوان ؟ المره دي اتجنت و اللا ايه ؟؟ ) ( فيه واحدة تفرح لجواز جوزها ؟ )

المعازيم كانوا كتير .. و كانوا من كبار المنطقة

الحاج ابراهيم جايب عروسته في الحنطور بيتحنطروا و قدامهم المزيكا ملعلعة ..

و فجأة سكتت المزيكا على صوت واحدة بترقع بالصوت :


( يا دهوتييييييييييييييييي .. )

فيه ايه يا وله ؟ الصوت دا جاي منين يا وله ؟

ايه يا ولاد ؟ فيه حريقة و اللا حاجة ؟


الكل وجه وشه ناحية الصوت جاي منين

الصوت جاي من فوق سطح دار الحاج ابراهيم

خير يا وله فيه ايه ؟

رجع الصوت يرقع من تاني :

( يا دهوتيييييي .. الحاج ابراهيم ابو شعبان بيتجوز يا بلد )

دا صوت مين يا وله ؟

صوت الحاجة خضرة ؟؟؟
انزلي جاك خابط في نافوخك ..

من الصبح بتزرغطي و جايه الوقتي تصوتي ؟

دقي يا مزيكا


دقت المزيكا .. و الناس صوت ضحكها كان مغطي على صوت المزيكا

ضحك صاحبنا من عميق قلبه على تلك القصة و استأذن شلة الأنس في الانصراف

انصرف دون أن يفرغ ما في جعبته على صفحاته الإبداعية

ليست هناك تعليقات: